فصل: 4 - من ينفذ الحدود‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله **


 الباب الخامس المفهوم الجديد للجهاد عند بعض الشباب المسلم

بدأ منذ عام 1375هـ - 1965م تقريبا فهم جديد لمعنى الجهاد في الإسلام، وهذا الفهم الجديد نشأ عن تصورات عقائدية، ولأسباب وأحداث سبقت ظهور هذا الفهم وصاحبته، ونستطيع أن نلخص ونوجز أبعاد هذا الفهم الجديد لمعنى كلمة الجهاد فيما يلي‏:‏

1 - المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع كافر، لأنه استبدل القوانين الإسلامية بالوضعية، وأن مظاهر الانحلال والفساد دبت فيه، وأن المعروف قد أصبح منكرا والمنكر قد أضحى معروفاً‏.‏

2 - أفراد هذا المجتمع وحكوماته مرتدون مارقون، والمظاهر الإسلامية في هذا المجتمع مظاهر كاذبة مضللة منافقة، فشيوخ الدين ممالئون للسلطان الكافر‏.‏

3 - والمساجد مساجد ضرار، لأنها تسير في ركاب الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والمؤسسات الإسلامية سواء كانت أهلية، كجمعيات الخير والبر، أو حكومية كوزارات الأوقاف والجامعات الإسلامية، حكمها حكم المجتمع ما دامت أنها تستظل بظل الحكومات الكافرة‏.‏

4 - الجهاد مفروض لتغيير هذا الواقع وإحلال شريعة الله مكان شريعة الكفر‏.‏

5 - كل الوسائل السلمية لا تُجدي فتيلا، ولا توصل للهدف السابق، لأن كل عمل سلمي للدعوة يقابل بالدعاية الحكومية الكافرة، لأنها تملك المال ووسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعة وصحافة، وكذلك تمتلك المدارس والجامعات، والوظائف، وتستطيع بذلك أن تفعل ما تريد، ولأنها تهدم والدعاة يبنون فإنها تسبقهم حتماً ، لأن الهدم أسهل من البناء‏.‏

6 - مادام الحكام كفرة والجهاد واجبا، فقد وجب الخروج عليهم وقتالهم بالسلاح، لأن الرسول أمر عندئذ بالخروج عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان‏]‏، والحكم بغير ما أنزل الله كفر بواح‏.‏

7 - في القتال يجوز الخداع، لأن الرسول قال‏:‏ ‏[‏الحرب خدعة‏]‏‏.‏

8 - ويجوز الاغتيال، لأنه أرسل من يغتال كعب بن الأشرف، وعبدالله بن سفيان، وغيرهما‏.‏

9 - يجوز إظهار خلاف ما يبطنه المسلم حتى يتمكن من قتل هؤلاء الأعداء‏.‏

10 - لا يجب في القتال أن تُرفع راية، أو يُعلن جهاد أو يُميز صف، لأن القتال فرض على كل أحد، والذي على الحق جماعة ولو كان وحده، فكيف لو كان هناك اثنان أو ثلاثة‏.‏

11 - يجوز قتل كل من تترس به الكافر ولو كان من المسلمين إذا كان لا يمكن قتل هذا الكافر إلا بهم وبذلك يجوز قتل الجنود والشرطة والجيش إذا حاولوا الدفاع عن الحكام الكفار‏.‏

12 - لا يجب إعلان القتال على الكفار، لأن رسول الله قاتل أقواما ‏(‏وهم غارون‏)‏ لا يعلمون بمقدمهم إليه‏.‏

13 - ليس للنساء والأطفال حرمة، لأن أولاد الكفار من الكفار، وقد سئل الرسول عن أولاد الكفار ونسائهم يُقتلون في البيات ‏(‏الهجوم الليلي‏)‏ ، فقال‏:‏ ‏[‏هم منهم‏]‏‏.‏

14 - يجوز قتل الكفار، وهم الحكام والشعوب الراضية ليلا ونهارا وبغير إعلام وإشعار لهم، ولو قُتل في ذلك نساؤهم وأطفالهم‏.‏

15 - أموال هؤلاء ‏(‏الكفار‏)‏ أعني المسلمين الذين يعيشون في هذا المجتمع يجوز أخذها بكل سبيل، لأن أموال الكفار غنيمة للمسلمين، فيجوز غصبها وسرقتها ونهبها‏.‏

16 - نساء الكفار ‏(‏أعني المسلمين الذين يعيشون في ظل النظام الوضعي‏)‏ حلال أيضا استرقاقهم وسبيهم‏.‏

17 - لأن النظام نظام كافر، فالدار التي نعيش فيها دار حرب، وبذلك تكون كل ديار المسلمين الآن ديار حرب، يجوز فيها ما يجوز في دار الحرب من القتل والسلب والنهب والغصب والخطف‏.‏

18 - لا تجوز الصلاة بالمساجد، لأن الدولة الكافرة هي التي تنفق عليها وتعين أئمتها ومؤذنيها‏.‏

19 - لا يجوز تولي أي ولاية في هذه الحكومات، لا وزارة، ولا عمل في جيش أو شرطة، أو تعليم أو صناعة، لأن كل عمل حكومي هو إعانة للحكم الكافر‏.‏

20 - جميع النصارى واليهود وأهل الملل الأخرى الذين يعيشون في بلادنا ‏(‏بلاد الحرب‏)‏ لا عهد لهم ولا أمان، لأنهم محاربون للمسلمين، وبالتالي هم حربيون، وليسوا مستأمنين أو معاهدين أو أهل ذمة‏.‏

21 - لا يوجد الآن حكم إسلامي قط في الأرض، ولذلك يجب العمل لإيجاد هذا الحكم‏.‏

22 - ليست هناك طريقة لإيجاد الحكم الإسلامي إلا بالحرب، والحرب تكون وفق المفاهيم والأحكام السابقة‏.‏

23 - لا يجوز أن نحكم بالإسلام لأحد، إلا من عرفنا حقيقة معتقده، وأنه يوافقنا في كل ما قلناه آنفا، وكل من لا يعتقد هذه العقيدة تماما كما نعتقد فهو كافر يجب إلحاقه بمعسكر العدو وحربه معه‏.‏

24 - لا يجوز بتاتا تقديم حرب الاستعمار والكفار الخارجين كاليهود والأمريكيين والروس مثلا قبل حرب الأعداء القريبين، وهم هؤلاء الذين يُنسبون إلى الإسلام وليسوا كذلك‏!‏‏!‏

25 - أي شخص اختارته الجماعة التي تعتقد هذه الأفكار أميراً فهو أمير تجب طاعته وإن لم يعلم به غيرهم، فلا يشترط في الأمير العام الذي يعلن هذه الحرب، ويقوم بهذا الجهاد أن يكون ظاهرا ولا متمكناً، بل يكفي أن يبايعه رجل أو رجلان‏.‏

26 - الحكم الإسلامي هو ما في القرآن الكريم والحديث فقط، وفهم الصحابة ليس حجة علينا، وأقوال الأئمة والفقهاء ليست حجة، ويستطيع كل أحد أن يفهم القرآن والسنة ويستنبط منهما، وإن لم يدخل معهدا علميا أو جامعة أو تتلمذ على أي شيخ من الشيوخ، وفينا من هو أعلم من الصحابة، وأفقه من الأئمة‏!‏‏!‏

27 - يجوز الانبثاث في الجماعات الإسلامية العلنية القائمة لتحويل مسارها نحو هذا الفهم الجديد للإسلام‏.‏

الرد على هذا المفهوم الجديد للجهاد‏:‏

هذه هي خلاصة الفقه الجديد، أو المنهج الجديد للجهاد الذي تتبناه اليوم مجموعات شتى في أنحاء العالم الإسلامي، وعندي النصوص الكاملة لهذا الفقه من كتب هذه الطوائف الجديدة، ولا أشك أن بعض هؤلاء الذين جنح بهم فهمهم المريض إلى هذا الحد مخلصون محبون للخير، ولكن كم من مريد للخير لم يبلغه، ولا أشك أيضا في أن هناك من غير المخلصين، بل من الذين يريدون شراً بأمة الإسلام، وتحول ساحة الوطن الإسلامي إلى ساحة حرب حقيقية بين أبناء المسلمين أنفسهم، حيث يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا، بل ويغدر ويكذب ويغش ويتعلم النفاق الذي ليس بعده نفاق، واللؤم الذي ليس بعده لؤم قط‏.‏

وصفحات الكتاب السابقة كانت ردا على كل هذه الأفكار المنحرفة الجانحة، ونستطيع أن نوجز الرد على هذا الفكر هنا أيضا بما يلي‏:‏-

 1 - متى يكون المسلم كافراً

لاشك أن تعميم القول بالكفر ليس بصحيح وهو مخالف لهدي القرآن والسنة، حيث أمرنا ألا نشهد إلا عن بينة‏.‏‏.‏ وكيف نشهد أن مجتمعاً ما أصبح خاليا من الإسلام‏؟‏‏!‏ والحال أن عامة أهله مسلمون، ممن يشهد أن لا إله إلا الله ويصلي ويصوم ويتقي الله عز وجل، ويتورع عن الحرام في مطعمه ومشربه ومأكله، وهو كذلك يكره الكفر والكافرين، ولا يرضي الله عنه ولا يوالي أعداء الدين، فكيف يكون أمثال هؤلاء كفاراً لمجرد سكناهم في بلد اختلطت فيها قوانين الكفر بقوانين الإسلام‏؟‏‏!‏ علما بأن الله شهد بإسلام من يعيش في ديار الكفار مضطراً لا يستطيع الهجرة منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا‏}‏، وهذا ودولة الإسلام قائمة في المدينة وما حولها، والأنصار يواسون ويفرحون بمن هاجر إليهم، ولا ينزل أحد من المهاجرين عند أنصاري إلا بقرعة‏.‏‏.‏ فكيف الآن‏!‏ وليس هناك من إمام يعلن أنه إمام المسلمين، وأن هلم إلى العيش في رحاب الإسلام، وأن هاجروا من الدار التي يستذل فيها المسلمون إلى الدار التي يعزون فيها‏!‏‏؟‏ هل في هذه الحالة يُسمى من يعيش في بلد يحكم بالقوانين الوضعية كافراً مرتدا لمجرد وجوده وسكناه في مثل هذه البلد‏؟‏ لاشك أن هذا قول من لم يفقه الدين، ولم يعرف الواقع‏.‏

 

2 - تعميم القول بكفر الحكام جميعاً خطأ

لا شك أن الأمة قد ورثت هذه الحالة البائسة بعد غزو عسكري لأراضيها وأوطانها استمر زمانا طويلا، ففي بعض بلاد المسلمين بقيت عساكر الكفار قرنا من الزمان، ومنها قرنين وأكثر، استطاع الكفار فيها وضع قوانين الكفر، وتغيير العقول والقلوب، وتربية جيل يؤمن بأفكاره وعقائده من أبناء المسلمين، وليسوا جميعا على موقف واحد من الدين، وموقف واحد من الكفار المستعمرين، فهناك حكام يصلون ويصومون، وقد ورثوا هذا التركة بكل ما فيها، وهم يتمنون التخلص من قوانين الكفر، وإحلال قوانين الإسلام مكانها، وهناك آخرون انسلخوا من الدين ظاهرا وباطناً، أو انسلخوا باطنا وأبقوا شيئا من ظاهر الدين على أنفسهم كالصلاة في الأعياد، وإرضاء المسلمين ببعض الكلمات كالبسملة والحوقلة‏.‏

ولا شك أن هذه الأصناف لا يجوز أن يكون الحكم عليها واحدا، وإلا كانت الشريعة غير حكيمة، والحال أن الشريعة حكيمة تُفرق بين المضطر وغيره، وبين المتأول والمتعمد، وبين المنافق والكافر، ولذلك فالحكم بالجملة على كل الحكام دفعة واحدة حكم يعوزه الصواب، وينقصه الحكمة، بل هو حكم متعد‏.‏‏.‏ وقد رأينا وشاهدنا من حكام المسلمين من يتمنى ويسعى جاهدا لاستبدال قوانين الكفر بقوانين الإسلام، ومن يحب أن يسود الخير ويكثر أصحابه، كما أن منهم من هو بضد ذلك، فكيف يجوز أن يتساوى عندنا أهد الصدق والإيمان والصلاة بأهل النفاق والكفر ومحاربة الدين‏.‏

 3 - قواعد الحكم بتكفير المسلم

لاشك أيضا أن للتكفير أصولا بيناها سابقا، ونوجزها الآن، وهي‏:‏ لا يجوز أن يُحكم بالكفر على مسلم إذا رأيناه يفعل مكفرا من المكفرات إلا بالضوابط الآتية‏:‏

أ - أن لا يكون جاهلا، فإذا كان جاهلا بحكم ما يفعله فلا يكفر حتى يتعلم وتُقام الحجة عليه‏.‏

ب - أن لا يكون متأولاً يرى أن ما يفعله من مخالفة شرعية إنما هو لمصلحة أعظم أو درءا لمفسدة أعظم، كما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيذ بعض الحدود درءاً لمفسدة أعظم، ونحو ذلك‏.‏

ج - أن لا يكون مضطرا ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏‏.‏

والآيات في هذا المعنى -أعني الاضطرار- كثيرة جدا‏.‏

ووفق هذه الضوابط يكون الحكم على معين ما أنه كافر، وأما إلقاء الكلام على عواهنه، وتكفير الناس دون العلم بحقيقة حالهم، فهذا لا يقدم عليه إلا رقيق الدين، قليل التقوى والخوف من الله، حيث يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من قال لأخيه يا كافر وليس كما قال إلا حار عليه‏]‏‏.‏

 

4 - من ينفذ الحدود‏؟‏

لاشك أنه ليس هناك تلازم بين الحكم على شخص ما بالكفر والأمر بقتله أو قتله، وذلك أن تنفيذ القتل حداً كما هو في المرتد لا يجوز إلا للحاكم المسلم القائم الظاهر، أعني لا ينفذ الحدود إلا الإمام المسلم العام أو من ينوب عنه، وليس قتل المرتد هو من واجبات أو حقوق الأفراد، وإلا لقتل كل أحد من يريد قتله وزعم أنه مرتد، وهذه قضية إجماعية لا خلاف فيها بين المسلمين، أعني أن تطبيق الأحكام ليست للرعية وإنما هي للإمام، وذلك لأن ترك الرعية تقوم بتنفيذ العقوبات الشرعية ‏(‏الحدود‏)‏ يؤدي إلى الفوضى والفساد والاضطراب‏.‏

وبسبب الجهل بهذه النقطة حدث الفساد في الأرض من الجماعات التي تدعي نُصرة الدين والجهاد، لأنهم ظنوا أن قتل المرتدين وقتالهم هو من حقوقهم، وأنه مُسند إليهم، وبذلك استحلوا دماء مخالفيهم في عقيدتهم التي شرحناها آنفاً، بل قتل بعضهم بعضاً عند أدنى خلاف بينهم فيما يعتقدونه، ظانين أن هذا من باب تنفيذ الحكم على المرتد، والحال أنه لا ينفذ حكم الردة إلا إمام قائم معين أو من ينوب منابه ويسد مسده، وهذه كما ذكرنا مسألة مُجمَع عليها‏.‏

 5 - لا تلازم بين تكفير الحاكم والخروج عليه

وقد ظن كثير من هؤلاء الشباب أيضا أن الحكم على حاكم ما، أو رئيس ما بالكفر يستلزم الخروج عليه بالسيف، وهذا خطأ أيضا، فليس كل حاكم كفر كفرا بواحا يلزم المسلمين الخروج عليه، مهما كانت الظروف والأحوال، بل إن الخروج عليه يستلزم اتباع السياسة الشرعية في ذلك، شأن ذلك شأن إنكار أي منكر من المنكرات، فكما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر، ولا إزالة منكر يترتب على إزالته حدوث منكر أعظم منه، فكذلك الأمر في إنكار منكر الحاكم أو الرئيس الخارج على الدين المعلن للكفر، فمع الحكم بكفره فإن الخروج عليه بالسيف يستلزم أن يكون الخروج مؤديا إلى إزالة منكره دون أن يحدث ما هو شر من ذلك، كأن يأتي من هو أعظم منه شراً وبلاء على المسلمين، وكأن يحفزه ذلك إذا تمكن من الإفلات أن يستأسد على المسلمين، ويستبيح بيضتهم، ويهتك حرماتهم‏.‏‏.‏‏.‏ وقد حدث هذا مراراً، فكم من حاكم ظالم أو فاجر، أو حتى كافر معلن للكفر قام عليه بعض الأفراد من أهل الحماسة الفارغة والغيرة الكاذبة، ففشلوا في تحقيق مآربهم، فكان هذا بلاء على المسلمين عامة، حيث استباح هذا الفاسق حمى المسلمين، وفضح حريمهم، ومزق جماعتهم، وتسلط بسيف القهر عليهم، فكان قيام مثل هؤلاء المغرورين المتحمسين الجاهلين بلاء على المسلمين وليس شفاء لأمراضهم، وإزاحة لعلتهم‏.‏

والمهم هنا البيان أنه لا تلازم بتاتا بين الحكم بكفر حاكم ما، والخروج عليه، نعم يجب اعتقاد وجوب الخروج عليه، ولكن لا يجوز تنفيذ هذا الواجب إلا وفق السياسة الشرعية الحكيمة، وهي ألا يُزال منكر بمنكر، وأن لا يترتب على إزالة هذا المنكر منكر أعظم منه‏.‏

 6 - ديار المسلمين الآن ليست ديار حرب

لاشك أن القول بأن ديار الإسلام الآن وأوطانهم ديار حرب قول فاجر، ليس عليه دليل من كتاب أو سنة أو فقه أو عقل أيضا، وذلك للأسباب الآتية‏:‏

أ - أنه لا يجوز أن تكون هناك دار حرب إلا إذا كان هناك دار إسلام، والقائلون بأن بلاد المسلمين الآن هي ديار حرب نسوا أن يذكروا لنا أين ديار الإسلام، وذلك أن ديار الكفار لا تسمى ديار حرب إلا لوجود ديار الإسلام التي تعلن الحرب عليها، وتحوز المسلمين، وتحميهم، أما إذا انعدمت دار الإسلام التي تحمي المسلمين وتدافع عنهم، وينطلق منها جحافلهم وجيوشهم، فإنه ينعدم أيضا وجود دار حرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسم مكة دار حرب عندما كان يسكنها قبل الهجرة، بل لم يفرض الله عليه الحرب إلا بعد أن تكونت ووجدت دار الإسلام أولا، وعلى الذين يقولون إن الدار الفلانية دار حرب أن يوجدوا دار الإسلام أولا كما أوجدها الرسول دون قتال وسفك دماء‏.‏

ب - أن القول بأن ديار الإسلام الآن وأوطانهم ديار حرب‏:‏ معناه أن يتحول المسلمون إلى مجموعة من اللصوص والقتلة والمنافقين والمجرمين، وهذا ما حدث بالفعل مع الذين نادوا بذلك، فقد تحولوا بالفعل إلى قتلة بلا هدف ولا سياسة، ولصوص يسرقون ويغتصبون، بل استطاعوا أيضا استدراج الفتيات البريئات من أهلهن المسلمين بحجة أنهم كفار، وتزوجوا بهن دون ولاية أو تسجيل عقود‏!‏‏!‏‏.‏

بل قال لي بعض هؤلاء‏:‏ لو تمكنت من مال أي شخص، ولو كان يصلي، ولو كان من أنصار السنة وأهل التوحيد لسرقت ماله، واغتصبت زوجته، لأن كل هؤلاء ليسوا مسلمين، ونحن في دار حرب ،ومالهم مباح‏!‏‏!‏ وسألته، وكنا في مدينة ‏(‏بنها‏)‏ وتعداد سكانها ربع مليون نسمة تعلم في هذه المدينة مسلما قال‏:‏ لا‏!‏‏!‏‏.‏‏.‏ فانظر مقدار هذا الفهم، وقلت له أيضا‏:‏ ما يمنعك من أخذ مال غيرك واسترقاق أطفاله، وسبي نسائه‏؟‏ قال‏:‏ لأنني غير مُمَكن فقط، أي لأني لا أملك تنفيذ ما أعتقد به من إباحة أموال ونساء هؤلاء‏.‏

أقول‏.‏‏.‏ لا شك أن القول بأن ديار المسلمين اليوم وأوطانهم ديار حرب يجعل ممن يقولون بهذا القول مجموعة من المنافقين، والقتلة، والمجرمين‏.‏

ج - بالرغم من فظاعة وشر القول بأن ديار المسلمين الآن ديار حرب، إلا أن أصحاب هذا القول أيضا متناقضون فالمعروف أن دار الحرب لا تُقام فيها الحدود الشرعية، فمن شرب خمراً مثلا لا يُجلد، ومن سرق لا تقطع يده، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء، وذلك حتى لا يلحق المسلم الذي يقع في معصية من المعاصي التي تستوجب حدا لا يلحق بالكفار، وللأسف أن أصحاب الفهم الجديد في الجهاد قد يتعللون عند مواجهتهم بالقول‏:‏ لماذا تقتلون وتذبحون وتغتالون‏؟‏ يقولون نريد أن نقيم الحدود‏!‏‏!‏ فكيف تكون مثل هذه حدود والحال أنتم تقولون إننا في دار حرب‏!‏‏!‏ ودار الحرب لا تقام فيها الحدود، وكذلك لا يجوز إقامة حد في الإسلام إلا بتعيين إمام وقاض وشهود وتمكين للمتهم من الدفاع عن نفسه، فكيف يكون اغتيال شخص ما أو سرقة محل ما إقامة للحدود‏!‏‏!‏‏؟‏

ولا شك أن ديار المسلمين الآن وأوطانهم هي ديار إسلام مادام أهلها مسلمون، وإن غلب بعض أنظمة الكفر عليهم، وهم مطالبون بطاعة الحق فقط، ومأمورون بمعصية أنظمة الكفر وقوانينه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهم مأمورون بالسعي والجهاد بكل معاني الجهاد التي شرحناها للوصول إلى تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى كاملا، واتباع السياسة الشرعية في سعيهم وجهادهم، هذا هو الدين القويم والصراط المستقيم‏.‏

 

7 -حكم القتال دون تمييز الصفوف

وأما القول بأنه يجوز قتال دون أن يتميز صف المسلمين من صفوف الكفار، فهو حرام وقول أعمى لا ينبني على فقه أو دين أو عقل، وهذه آيات القرآن، وأحاديث الرسول وتاريخ الصحابة والمسلمين كله شاهد أنه لا قتال إلا بعد تميز الصفوف، وانحياز أهل الإسلام إلى إمامهم وعلمهم، وانحياز أهل الكفر إلى قوادهم وجيشهم، فلم يأمر الله تعالى الرسول بالقتال إلا بعد أن تميز جيشه، وكانت له قاعدته في المدينة، وجماعته المستقلة التي تخرج وتبرز وحدها رافعة لواءها، معلنة أهدافها، معروفة أوصافها‏.‏‏.‏ هذا هو الجهاد الإسلامي، صف مميز له هدف معلوم وراية مرفوعة ، وجماعة ظاهرة، وإمام قائم، وأما المجموعات السرية المختبئة في الجحور التي تخرج على الناس فجأة فتغدر وتقتل وتضرب على غير هدى فليسوا دعاة إسلام، وليس لفعلهم هذا شبه ولا مثال في كل تاريخ من يُقتدى به من أهل الإسلام‏.‏‏.‏ وأما الاستدلال بأن الرسول غزا أقواما من بني المصطلق وهم غارون فنعم لقد فاجأهم الرسول، ولكن النذارة بلغتهم بأن الرسول قادم إليهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ذو علم، وصاحب جماعة وأمة، وله رسالة قد أبلغها في الآفاق، وجيش معروف، وأهداف واضحة، وقد أمر صلى الله عليه وسلم أن لا يحارب قوم حتى يدعوا إلى الإسلام أولا، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالحرب‏.‏ ‏(‏صحيح مسلم باب الإمارة‏)‏‏.‏ فهذه سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وسنة من يقتدي به من أهل الحق والدين‏.‏

وأما أن الرسول قد أرسل من يغتال أفرادا من الكفار فنعم، فإن الإمام المسلم الظاهر له أن يرسل من يغتال من يؤذي المسلمين إذا لم يكن من يغضب له، وكان هو رأس شر، يموت الشر بموته ولا يستفحل بقتله، كما فعل الرسول مع كعب بن الأشرف، لأنه رجل واحد، رأس من رؤوس الشر، ليس له إلا جسد، ولا جيش وراءه ولا أمة تغضب له، وكذلك الحال مع عبدالله بن سفيان الذي كان يجمع للرسول أوباش الناس وأخلاطهم، وليس صاحب شرف أو قبيلة أو جماعة، فأرسل الرسول من يقتله وهو عبدالله بن أنيس، فتفرق كل هؤلاء الأوباش والأخلاط بعد أن قتله عبدالله بن أنيس رضي الله عنه‏.‏‏.‏ وكذلك أرسل النبي من قتل سلام بن أبي الحقيق اليهودي بخيبر، لأنه رأس من رؤوس الشر إذا قُتل انتهى شر جماعته وخمدت نيرانهم، وقد كان‏.‏‏.‏ فالاغتيال جائز في الإسلام إذا صدر الأمر به عن إمام ممكن وأمة قائمة، وكان الاغتيال لا يؤدي إلى ضرر أكبر منه‏.‏‏.‏ ألا ترى كيف أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان عندما أرسله ليأتي بخبر الكفار في الخندق، قال له الرسول‏:‏ ‏[‏اعرف الخبر ولا تحدث حدثا حتى تأتي‏]‏، كيف أن حذيفة أتاهم والريح تضربهم، والظلام يلفهم، وقد قال لهم أبو سفيان وقد كان قائدهم إني مرتحل‏.‏‏.‏ ثم ركب ناقته ولم يفك وثاقها إلا بعد أن ركبها‏.‏‏.‏ وقال حذيفة‏:‏ لم يكن بيني وبينه شيء وأردت أن أقتله بسهم، ولكني تذكرت كلام رسول الله‏:‏ ‏[‏لا تُحدث حدثاً حتى تأتيني‏]‏، فأمسكت‏.‏‏.‏ أرأيت لو قتل حذيفة بن اليمان أبا سفيان بن حرب في ذلك الوقت، مخالفا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏ ماذا ستكون النتيجة‏؟‏‏!‏ لا شك أن هذه الغزوة ما كانت لتنتهي على ذلك النحو، وهو رجوع الكفار إلى مكة، واكتفاء المسلمين بقتال الله عنهم، بل إن الكفار القرشيين لو قُتل رئيسهم ما كان لهم أن يرجعوا هكذا فرارا، بل كانوا سيرجعون ويمكثون ويقاتلون مهما كلفهم ذلك من أمر، وكان في هذا كل البلاء على المسلمين‏.‏

والشاهد هنا أنه ليس كل شخص صالحاً لأن يغتال، بل للاغتيال أيضا في الإسلام أصوله وقواعده الشرعية، ولابد قبل إقدام الإمام المسلم عليه أن يقدر المصالح والمفاسد‏.‏‏.‏ هذا هو شأن الاغتيال في الإسلام، فكيف يتناسب ذلك مع ما يفعله أفراد من الشباب الأغرار، تختمر عندهم فكرة ما أن فلانا عدوا لله أو أنه فعل كذا وكذا‏.‏‏.‏ وقد يكون هذا بدفع من مخابرات الأنظمة الفاجرة، أو ممن يريد بالمسلمين شراً لإيقاع الفتن بينهم، فيغريهم بذلك، ويندفعون ليغتالوا، وقد ينجحوا في قتل غريمهم، ولكن الشر بعده يعم ويطم، وقد يفشلون فتكون الداهية أعظم‏.‏‏.‏ فكيف يُقال والحال هذه إن مثل هذا جهاد، والحال أنه في معظمه غدر وإفساد واستبدال لشر أخف بشر أعظم‏.‏

 8 - حكم تولي الولايات في الحكومات الكافرة

وأما القول بأن حكوماتنا هذه كافرة بإطلاق، فقد بينا حكمه آنفا، وأما القول بأن تولي الولايات في الحكومات الكافرة لا يجوز شرعاً ، فهذا أيضا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل الكتاب والسنة على غير ذلك، فقد تولى يوسف صلى الله عليه وسلم وهو نبي كريم القيام على خزائن الأرض في مصر وهو منصب مشابه لمنصب وزارة المالية الآن، وهو وإن كان في شرع من سبقنا، إلا أنه لم يأت في شرعنا ما يخالفه، نعم جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المسلم جابياً أو شرطياً عند أئمة الجور ‏(‏أحمد 4/133‏)‏، فلا يتعدى هذا إلا بدليل، وهو أنه يحرم أن يكون المسلم جابياً يجمع المكوس من الناس للحاكم ظلماً ، وكذلك أن يكون شرطياً يضرب الناس ليأخذ أموالهم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأما في ولاية لا يكون المسلم فيها عاصياً لله، كأن يكون معلماً، أو صانعاً أو زارعاً، أو مدافعاً عن أمته بالحق، أو نحو ذلك من ولايات ووظائف الحق، فهذا لا شيء فيه إن شاء الله، ولو كان الحاكم كافراً، فكيف إذا كان مسلماً ظالماً لنفسه، جامعاً بين المعصية والطاعة، لا شك أن تولي الولايات التي تعين المسلمين وترفق بهم، وتحجب أعداء الله عن الإفساد في الأرض أولى من تركها لأهل الشر والفساد، وبطانة السوء الذين يفسدون ولا يصلحون‏.‏‏.‏ وبالجملة فالمسلمون المخلصون هم أولى الناس بتولي الولايات وتقلد المناصب، وإزاحة أهل الشر والفسق، وتسيير شؤون المسلمين إلى الخير، وليس العكس، حيث ينزوي المسلمون ويبتعدون مفسحين المجال لغيرهم، تاركين شؤون المسلمين بيد أعدائهم، فإن هذا من أعظم الفساد والشر‏.‏‏.‏ نعم لا يجوز للمسلم إذا كان في ولاية ما أو منصب ما أن يكون منفذا للشر، عاملا به، بل لابد وأن تكون له شخصيته وعمله، ولابد وأن يكون ائتماره بأمر الله أولا، وأن يكون عمله في طاعة الله وليس في معصيته‏.‏

والخلاصة أنه يجوز للمسلم أن يعمل ولو عند كافر مادام أن عمله مباح، وهو من أعمال الخير، فكيف إذا كان في عمله تقوية لشأن المسلمين، ورفع لمنزلتهم، وإبعاد لأهل الشر والفساد عن حصون المسلمين، والتحكم بأعراضهم وأموالهم‏.‏

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى، مثل نيابة السلطنة، والصغرى، مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة‏.‏‏.‏ لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن والمطلوب منه الصدق، مثل الشهود عند الحاكم، ومثل صاحب الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف، والنقيب والعريف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال، ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع والمطلوب منه العدل، مثل الأمير والحكم والمحتسب، وبالصدق في كل الأخبار، والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال، تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏115‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة‏:‏ ‏[‏من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض‏]‏، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال‏:‏ ‏[‏عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً‏]‏، ولهذا قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطين‏؟‏ تنزل علي كل أفاك أثيم‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏221‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة‏}‏ ‏(‏العلق‏:‏15‏)‏ ، فلهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل، وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاف لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏[‏من قلد رجلا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى منه ، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين‏]‏، فالواجب إنما هو الأرضى من الموجود، والغالب أنه لا يوجد كامل، فيفعل خير الخيرين، ويدفع شر الشرين، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول‏:‏ ‏"‏أشكو إليك جلَد الفاجر وعجز التقي‏"‏، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس، وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك سورة الروم لما اقتتلت الروم وفارس والقصة مشهورة وكذلك يوسف الصديق كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون، وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان‏"‏ ا‏.‏هـ‏.‏ ‏(‏الحسبة ص 6 و 7‏)‏‏.‏

والشاهد فيما سقناه من كتاب الحسبة للإمام ابن تيمية -رحمه الله- أن المسلم عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب استطاعته وتوليه الولايات التي يستطيع من خلالها أن يقوم بهذا الأمر‏.‏‏.‏ وقد كان يوسف الصديق نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل يوسف من الخير ما قدر عليه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر بحسب استطاعته، ولا شك أن هناك ولايات كثيرة يستطيع المسلم من خلالها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان في ظلال حكم جائر، أو كافر، كوزارة التربية والتعليم، والأوقاف والدعوة، والشؤون، وغير ذلك‏.‏‏.‏ اللهم إلا إذا كان المسلم في ولاية ما سببا لأمره بالمنكر ونهيه عن المعروف وصده عن سبيل الله، فإنه حينئذ لا يجوز له البقاء، ويحرم عليه العمل‏.‏

 

9 - منزلة العمل السلمي ، والدعوة والتربية في الإسلام

وأما القول بأن الدعوة السلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يغني فتيلاً في الإسلام، فهو قول خاطئ جداً بعيد عن الصواب، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الجهاد قول كلمة حق عند سلطان جائر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر‏]‏، فكيف تكون كلمة الحق عند سلطان جائر هي أفضل الجهاد، ويقول قائل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يغني فتيلاً، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الدين الأصيل، بل هو الذي من أجله جعل الله تبارك وتعالى المسلمين خير أمة أخرجت للناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏}‏ الآية، فكيف يُقال إن الدعوة السلمية لا تجدي‏!‏‏!‏ ولاشك أن الذين قالوا هذا القول لم يعرفوا الغايات التي من أجلها شرع الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أداء الأمانة التي حملها الله لأهل العلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏}‏ الآيات‏.‏

والغاية الثانية هي هداية من كتب الله هدايته، والدعوة هي الطريق إلى ذلك‏.‏

والثالثة هي إقامة الحجة لله حتى ينقطع عذر الكافرين يوم القيامة أمام ربهم‏.‏

والرابعة من غايات الدعوة هي إقامة المجتمع المسلم، وتربية أفراده على الإسلام‏.‏

والخامسة هي الذب عن دين الله، ودفع الشبهات التي تعترض الناس وتحول بينهم وبينه، وكل هذه أهداف عظيمة لا تتأتى إلا بالدعوة والجهاد السلمي والتعليم والرد على الشبهات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وأما القتال، فمع أنه في نفسه من خير أعمال الإسلام وأفضلها، إلا أنه شرع دفاعاً عن حوزة الدين، وتحطيماً للسدود التي يضعها الظالمون في وجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكسرا لشوكة الكافرين، وهو مع أهميته ومنزلته فإنه لا يجوز أن نُلغي به جهاد الكلمة، وبيان الحق، بل يجب أن يكون هذا في مكانه، وهذا في مكانه من هذه الشريعة المطهرة، وأما أن نُلغي هذا، ولا نوجه الشباب إلا للحرب فقط، ونجعل تعليمهم وتربيتهم في غرف مظلمة ولا يتعلمون إلا أساليب القتل والاغتيال، والتدمير، ولا يسمع الناس منهم كلمة حق، ثم نخرج بهم رأسا على الناس يقتلون ويخربون ويُفسدون دون أن يعلم الناس من هؤلاء‏؟‏ وماذا يريدون‏؟‏ وإلى أي شيء يدعون‏؟‏ فإن هذا من أكبر الباطل وأعظم الشر، وقد كتبنا فصلاً كاملاً من هذه الفصول عن أثر الدعوة السلمية بعنوان ‏(‏الساحة الكويتية والتطرف والعنف‏)‏، فارجع إليه إن شئت‏.‏

 10 - حكم غير المسلمين في أرض الإسلام

وأما القول بأن جميع النصارى والملل الأخرى، بل وجميع الطوائف عدا أهل السنة منهم لا عهد لهم أو أمان، ويجب قتلهم وقتالهم، فإن هذا أيضا من أعظم الشر والفساد‏.‏‏.‏ ولا شك أن المسلمين اليوم ليسوا في وضع سياسي يسمح لهم بتطبيق ما طبقه المسلمون في عصورهم الزاهرة على أهل الذمة، كإلزامهم بزي خاص، وأخذ الجزية منهم، وعدم تمكينهم من إظهار شركهم وصلبانهم، أو بناء كنائس جديدة‏.‏‏.‏ الخ، ولاشك أيضا أنه قد بينت طوائف تُنسب إلى الإسلام لعلها أشد شراً وفتكا وأذى من سائر الطوائف الأخرى وأن هؤلاء إن لم يعلنوا الحرب على المسلمين علانية، فإنهم سائرون فيها سراً بكل ما أوتوا من قوة فهم ممالئون لأعداء الله من الكفرة والمستعمرين، موالون لهم، هذا في غالب أحوالهم، إلا أنه يكون منهم أيضا من ولاؤه ومحبته لأهل وطنه من المسلمين، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نشهد بالحق، وقال عن النصارى في وقت نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏ الآيات، ولاشك أن إعلان الحرب هكذا من الجماعات الإسلامية على كل الطوائف غير الإسلامية، وغير السنية، إنما هو عمل أحمق جاهل لا يقره دين ولا عقل، لأن غايته أن يحرض الحكومات القائمة على أهل التدين الصحيح، ويمَكن لأعداء الإسلام من ديار الإسلام أكثر من تمكنهم الآن، وإنما البصيرة أن يُدعى إلى الإسلام الدعوة الصحيحة، وأن يُحاوَل قدر الإمكان أن توضع الأمور في نصابها، فلا يتسلم أمور المسلمين أعداؤهم، ولا يكون في جيوشهم وشرطتهم من ولاؤه لغير هذه الأمة، ومن قلبه مع أعدائها، ومن يتسلط عليها بدافعٍ من كفره أو طائفيته‏.‏‏.‏ والواجب على الشباب المسلم أن يقدر كل هذه الأمور، وأن يعرف كيف يضع الأمور في مواضعها الصحيحة‏.‏

ولا شك أن الإسلام من خلال شريعته المطهرة لم يطارد غير المسلمين لكفرهم، بل حاربهم لعداوتهم وحربهم، ولما تخلوا عن العداوة والأذى ، فإن غير المسلمين عاشوا في بلاد الإسلام معززين مكرمين التكريم اللائق بهم، وهذه المسألة هي من أخطر ما تواجه الدعوة الإسلامية في الوقت الحاضر، وإن لم يعالجها الشباب المسلم بما تمليه المصالح الشرعية بعيداً عن الهوي والجهل والتعصب، فإن الريح ستعصف ببناء الإسلام، وستكون هذه الطوائف هي أعظم فتنة وبلاء على أمة الإسلام‏.‏

 

11 - من الذي يصح له الاجتهاد والاستنباط

وأما القول بأن كل أحد قادر على فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وحل مشاكل الأمة، وخاصة هذه المشاكل العويصة التي تحتاج إلى أرضية فكرية وسعة اطلاع هائل، ومعرفة بأحوال العالم اليوم، وسياسات الدول والحكومات‏.‏‏.‏ خاصة بعد هذا التشعب والتداخل واهتمام كل دولة بما يحدث في الأخرى، نظرا لأن العالم قد أصبح كالقرية الواحدة، وأصبحت حياة كل دولة ترتبط بصورة أو بأخرى بما في الدول الأخرى، فبترول المسلمين مثلاً يعيش أكثر من شطر العالم عليه، وما يحدث في بلادنا يهم بالضرورة كل من ترتبط حياته بهذه المادة الحيوية، وهكذا‏.‏‏.‏

وفي خلال هذا التشابك يصبح معرفة ما يجب على المسلمين عمله ليس أمراً هيناً، بل يحتاج إلى فقه عظيم ودراسات كثيرة لا تتأتى للمبتدئين، ولا للمنعزلين عما يدور في هذا العالم‏.‏

هذا ، وشروط الاجتهاد التي دونها فقهاؤنا كثيرة، منها‏:‏ الإحاطة أو شبهها بالكتاب والسنة، ومعرفة فقه الفقهاء، وأصول الفقه، وقواعد اللغة، وأن يكون ذا عقل راشد، وفهم سليم، وتقوى لله عز وجل، وبُعدٍ عن الهوى، ومعرفة بالمصالح والمفاسد، ومعرفة بأحوال الناس‏.‏‏.‏ فكيف يقال بعد ذلك إن كل أحد يستطيع الاجتهاد وتقرير ما يُصلح هذه الأمة‏.‏‏.‏ للأسف إن معظم ما قرأته مما كتبه أهل الفقه الجديد في الاجتهاد كانت من كتابات أناس لم يتعدوا الثلاثين من أعمارهم، بل كان كثير منهم دون ذلك بكثير، بل وكثير من هؤلاء لم يتتلمذوا تتلمذاً صحيحاً على علماء، أو فقهاء بل إن كثيراً منهم لم يكد يعدو وجوده في إطار الإسلام الصحيح سنة أو سنتين، وكان قبل ذلك بعيداً كل البعد عن مشاكل المسلمين وأحوالهم، بل بعيداً بنفسه كذلك عن أخلاقهم وصفاتهم، فهل يعقل أن يحرم الله علماء الأمة جميعا الفهم الصحيح لمعاني الجهاد، ويمتن بذلك على أفراد من الشباب هذا شأنهم ومبلغهم من العلم‏.‏

ومرة ثانية نقول‏:‏ إن للاجتهاد أصوله وضوابطه، وإن أعظم الاجتهاد ما يكون منه في شؤون المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهذه أمور متجددة متغيرة، ويحتاج المفتي والمجتهد فيها أن يكون ملماً بمشكلاتها، وهذا عكس قضايا العبادات وشئون القربات، فإنها ثابتة لا تتغير‏.‏‏.‏ أقول هذا لأنني رأيت كيف أن شابا صغيراً جمع نصوصاً عن كيفية وضع اليد في الصلاة بعد الركوع، وتتبع أقوال العلماء ثم رجح ما رآه، وظن بعد ذلك أنه مجتهد، وقال لي‏:‏ أنا مجتهد لأنني اطلعت على أقوال العلماء في هذه المسألة، وكان هذا عندما بينت له ما معنى المجتهد، وطالبته بالمسائل التي اجتهد فيها، وكان له رأي، فذكر هذه المسألة ، فذكرت له أن هذه المسألة ليست الوحيدة في الصلاة، بل هناك في الصلاة وحدها أكثر من عشرة آلاف مسألة، فكيف بالصوم والحج وسائر العبادات الأخرى‏؟‏ وكيف بما وراء ذلك من شؤون المعاملات والسياسات‏.‏‏.‏ لاشك أن الوصول إلى معرفة قضية واحدة أو عشر قضايا لا يجعل من الشاب مجتهداً، وإنما ذلك يحتاج إلى زمن طويل وعلم غزير بينا بعضه آنفا، ولست ممن يقول أنه لا يوجد الآن من يجتهد، بل لا يخلو وقت للإسلام إلا من قائم لله بحجة، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك‏]‏ ‏(‏رواه مسلم‏)‏‏.‏

ولا شك أيضا أن الله سبحانه وتعالى قد كلفنا حدود استطاعتنا، ونحن لا نكلف أن نعمل إلا بما نظن وفق اجتهادنا أنه الحق، ومن الاجتهاد سؤال أهل العلم والشورى والنظر، وعدم الاستبداد بالرأي، ولو أن كل شاب متحمس يفعل ذلك، ويرجع إلى أهل العلم والرأي من المسلمين قبل أن يُقدِم على عمل ما من أعمال الجهاد والدعوة لصلحت أحوالنا ولوفقنا الله في أعمالنا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ ولكن للأسف يخرج عليك كل يوم من لا فقه لهم ولا علم، ثم هم مستبدون برأيهم، ظانين أنهم قد بلغوا الغاية علماً وفهماً وجهاداً، والحال أنهم غير ذلك تماما‏.‏

وختاماً ، فإننا ننصح هؤلاء الشباب أن يتقوا الله في أمتهم، وأن يخافوه سبحانه، وأن لا يُقدموا على أمر ما حتى يشاوروا أهل العلم والرأي من المسلمين، ففي هذا الخير كل الخير لهم، وفي هذا التعجيل بنصر الإسلام وعزه‏.‏